تأملات خارج المألوف
تساعدنا دراسة الفلسفة على فهم منطق اشتغال العلائق الإجتماعية وتكوين رؤية واضحة وسليمة للمفاهيم بما هي نتاج حركة الفكر في الوجود الإنساني.
وعليه، يبرز الإختلاف من وجهة نظر عامة كميدان للصراع والمبارزة، يتحول إلى معركة وجودية لإثبات الذات، ومن هنا تنبثق الوثوقية المطلقة لتجعل من الإختلاف خلافا وبالتالي فإنها تموضع ذاتها في المركز، أي المرجع لكل شيء.
بالنسبة للفلسفة، الإختلاف خاصية جوهرية في تكوين الإنسان، لا يظهر باعتباره حدا لفهم الأشياء كما لا ينتصب باعثا لمشاعر القلق والنفور، وإنما يتبدى بوصفه ميزة موجبة للتطابق والتعاضد، لذلك فالإختلاف ليس شيئا آخر غير التماثل وهو بهذا المعنى وضع مركب يسبغ طبيعة العلاقات الإنسانية ومنه تستمد الحركة فاعليتها وقوتها..
الإختلاف إذا هو الباعث على التماسك والإستمرارية ولو افترضنا أن جميع الأفراد متشابهون ولا وجود لحدود التشابه بينهم لكنا أمام عالم مختلف تماماً أو لحكمنا على كوكب الأرض بالنهاية، ذلك أن حركة الوجود تعتمد في سيرورتها على تناقض العناصر الكامنة في بنية المجتمع والتي تخلق التدافع المؤدي إلى إمكان الحقيقة.
غير أن مسألة إمكان التماسك في عناصر البنية لا تتحقق إلا بالتأكيد على قيمة الإختلاف بما هو خصيصة جوهرية في الطبيعة وفي الإنسان، إنه يدفع بالحركة للتقدم نحو نظام نموذجي يحاكي أساليب نمط حياة النمل أو النحل، لأن توزيع الوظائف هو من صميم خصائص الإختلاف الذي ينطلق من اختبار القدرات الذهنية والمواهب وإعطاء كل عنصر المهمة التي يفترض أنه قادر على أدائها بفاعلية ونجاح، ومن هنا، نستطيع القول إن فكرتنا عن الإختلاف لا ولم تكن أبدا صحيحة إذ لطالما نظرنا إليه باعتباره ميدان للعزل والإنكار وكم مرة نصبنا أنفسنا سدنة الحقيقة هذا إن لم نكن قد ادعينا امتلاكها ..
وهكذا إذا تتبدى مركزية العقل في عملية تصنيف الأشياء والعالم، بناء على التصور الذي ينظر إلى الواقع بوصفه قسمة بين اثنين، أي بين الخير والشر، الخطأ والصواب، الجمال والقبح.. إلخ. ومن خلال هذه الثنائيات يصدر العقل أحكامه بالبناء على نموذج رؤيوي هو المرجع، والذي إما أن يكون ناتجا عن الفكر والوعي وإما أن يكون محددا بسلطة مرجعية تشكل خلفية جاهزة للتفكير والحكم والوعي والثقافة..
وواجبنا أن نوضح مسألة الثنائيات في علاقتها بحركة الوجود الإنساني، ذلك أنها تعكس الصراع الأبدي بين الشيء ونقيضه أي أنها تمثل عمق الطبيعة البشرية القائمة على الإختلاف والتباين الناتج عن التفاعلات الداخلية بين مكونات البنية والتي تزود الفعل بالقوة والحركة بالتقدم، ولهذا فالإختلاف هو من يجعل علاقاتنا تتمدد إلى ما لا نهاية ويضمن استمرارها في الوجود لخدمة الحقيقة.
وبالنسبة لي فإن تدافع الشيء ونقيضه هو من يحدد الحقيقة، لأنه فعل عقلاني يمثل (في تصوري) شهادة منطقية على وجود الحق المطلق الذي لا يتغير ويبقى هو هو حتى لو تبدل مقياس الحقيقة، على الأقل في وقتنا الحاضر.
#مقالات
#تأملات_في_الشيء_وضده
